تقديم
يميل كثير من الباحثين إلى التأكيد على أن المدينة، والظاهرة الحضرية بشكل عام، ليست مجرد تركيبة عمرانية مادية تستوطنها جماعة بشرية وحسب، بل هي كيان حضاري حي، يتأسس وينمو نتيجة لتراكم مجموعة من الأفكار والنظم والممارسات المرتكزة على خلفيات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعمرانية، وبذلك تتشكل المدينة انطلاقا من تمثلات تفضي إلى بروز هويتها وتحدد مسار صيرورتها وتاريخها.
ويمكن التأكيد أيضا، وبالاعتماد على التراكم الحاصل في الدراسات والأبحاث الموجهة لمقاربة المجالات الحضرية، على أن التمدن ببلاد المغرب، يمثل ظاهرة تاريخية تفاعلت في إنتاجها مجموعة من العناصر والأنساق والوقائع والأحداث؛ فعلى امتداد تاريخ هذه المجالات، تأسست حواضر، وتطورت مدن، واندثرت أو خربت مواقع نتيجة تحركات بشرية أملتها حيثيات جغرافية أو اقتصادية أو اجتماعية معينة، كما برزت مدن أخرى نتيجة قرار سياسي محض، أو تشكلت بفعل عوامل أخرى متنوعة، كما أن هناك تأثر واضح للتمدين في مساره التاريخي بالحضارات وبالدول التي تعاقبت على هذه المنطقة.
وقد شهد البحث التاريخي بالمغرب خلال العقود الأربعة الماضية، تطورا کمیا وكيفيا. ويرجع الفضل في ذلك لما تمت مراكمته من بحوث ودراسات، انصب اهتمام الكثير منها على المجالات الحضرية. وقد أسهمت هذه الأعمال، رغم اختلاف مستوياتها، في إحداث نقلة نوعية في عملية البحث والتنقيب، يمكن تلمس تحلياتها على أكثر من مستوى.
لقد استطاع مجموعة من الباحثين المغاربة تحقيق تقدم ملحوظ في مستويات التعامل مع الظاهرة الحضرية، من خلال نوعية المقاربات والآليات المنهجية المعتمدة، وعبر استثمار ما خلفه المؤلفون والكتاب المغاربة القدامي من كتابات عن بعض المدن، من مثيل "الحلال الموشية في ذكر الأخبار المراكشية" لابن السماك العاملي، و "الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس" لعلي بن أبي زرع الفاسي، و"اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار" لمحمد الأنصاري السبتي، و"تقريب المفازة في تاريخ مدينة تازة" الذي سب لأبي الحسن علي الجزنائي، و"الروض المتون في أخبار مكناسة الزيتون" لابن غازي المكناسي، وغيرها من المصنفات، إضافة إلى ما أنتجه بعض المؤرخين المغاربة في بدايات القرن العشرين عن بعض المدن کمحمد بن جعفر الكتاني عن فاس، و محمد الكانوني العبدي عن آسفي، وعبد الرحمان بن زيدان عن مكناس، و محمد داوود التطواني عن تطوان و محمد بوجندار عن رباط الفتح وغيرهم، وهو ما سمح بالكشف عن كثير مما يخص تاريخ هذه المدن سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو العمرانية وغيرها، مما لا مناص للباحث من الرجوع إليه في كتابة تاريخ المغرب عامة، والمجالات الحضرية بوجه خاص.
وقد استفاد الباحثون المغاربة أيضا، بعد الاستقلال، من الإرث الذي خلفته الحقبة الاستعمارية بالمغرب، حيث برزت أسماء وازنة لبعض المؤرخين الأجانب الذين أنجزوا دراسات عن بعض المدن المغربية تعد إضافة نوعية في موضوعها، سواء من حيث تنوع المادة المصدرية أو من حيث المناهج التي تمت من خلالها مقاربة الموضوع، ونذكر في هذا الصدد ما كتبه "دو فیردان" (Deverduin) عن مراکش، و"لوتورنو" Le Tournleau)) عن فاس، و"كايي" (Caillé) عن الرباط، وغيرهم ممن ألفوا في الظاهرة الحضرية في تاريخ المغرب بشكل عام. وإلى جانب تلك الدراسات، استفاد هؤلاء أيضا مما خلفته بعض المؤسسات من دراسات على غرار معهد الدراسات العليا المغربية الذي أشرف على إنجاز مونوغرافيات موسعة، شملت حتى المدن المتوسطة والصغيرة. وقد أسهم كل ذلك في إنتاج كم مهم من الدراسات المغربية عن بعض المدن، حظي بعضها بقصب السبق في إثارة الكثير من القضايا، وفتح أفق مسارات البحث أمام الباحثين الجدد.
لقد تزايدت الدراسات المغربية عن المدينة المغربية منذ الثمانينيات من القرن الماضي إلى يومنا هذا بشكل مضطرد. ونستطيع تسجيل جملة من الملاحظات، اعتمادا على مجموعة من المعطيات الإحصائية المتوفرة عما أنتجه الباحثون المغاربة عن المدينة، منها تركيز الباحثين على المدن الكبيرة وخاصة المدن العواصم، ثم على مدن الشمال مقارنة بمدن الجنوب، والإكثار من الدراسات التي اهتمت بالفترة المعاصرة مقارنة مع غيرها من الحقب، واعتماد مقاربات سوسيولوجية وأنتروبولوجية واقتصادية ولسانية في الكتابة عن المدينة. كما توزعت مواضيع البحث في الموضوع بين ما هو سياسي واجتماعي، وما يهم تاريخ العمارة والآثار، وانكب بعضها الآخر على ما هو فكري - ثقافي أو اقتصادي، أو عسكري أو ديني، فضلا عن علاقة المدينة بالبادية ، أو بالمدن الأخرى، واهتم بعضها الآخر بالتاريخ الإداري والديبلوماسي. كما أن بعض الدراسات تأثرت بطبيعة المدينة المدروسة التي فرضت أحيانا طبيعة الموضوع المعالج، أو بالمادة المصدرية المتوفرة عن كل مدينة، إلى غير ذلك من الملاحظات التي تبقى عامة ومتشابة، مع فروق واستثناءات لا تظهر إلا بعد البحث التفصيلي.
وبناء على ما سبق، نعتقد أن ما أنجز في موضوع المدينة خلال العقود الأخيرة أصبح كافيا للوقوف لحظة، والتأمل في ما تمت مراكمته، وذلك من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف: أولا تقويم هذا المنجز وجرد بعض نتائجه وتقاسم تحارب الباحثين فيه وفق منظور ترکيبي وشمولي، وثانيا وضع الباحثين الجدد والمهتمين بتاريخ المدينة في صلب الإشكاليات التي يطرحها هذا النوع من الدراسات، وثالثا: فتح حوار علمي رصين بين جيل الباحثين الأوائل وجيل الباحثين الجدد، وهو ما يمكن أن يسهم في تشجيع البحث في بعض المجالات الحضرية التي لم تحظ بعد بما تستحقه من عناية.
إن وضع ظاهرة التمدن في تاريخ المغرب أمام مجهر الدراسة والتحليل يثير كثيرا من الإشكالات؛ يتعلق بعضها بطبيعة المادة المصدرية المعتمدة، وبعضها الآخر بنوعية المقاربات المنهجية المستعملة، ونظرة الدارس لموضوعه، وشكل الأسئلة الموجهة والباعثة على البحث والتنقيب، وغيرها من الإشكالات التي اعترضت سبيل من خاض غمار البحث في تاريخ المدينة المغربية. والملاحظ أن الأسئلة التي أنتجت من خلال مجموعة من الأبحاث والدراسات لا تزال تؤرق كل من رام البحث والتنقيب في تاريخ المدن المغربية بشكل عام، مما يستدعي ضرورة جرد ما أنجز في هذا المجال، وإعادة صياغة الأسئلة وتجميعها، ومساءلة المقاربات المعتمدة والمتعددة.
من أجل هذا، نقدم للقارئ الكريم هذا الكتاب الذي يضم تحارب بعض الباحثين الذين أثروا بدراساتهم المكتبة التاريخية في كتابة تاريخ المدينة المغربية. وهي أعمال عرضت في الندوة الوطنية التي احتضنتها الكلية متعددة التخصصات بتازة في 17 دجنبر 2014، وأسهم فيها الأساتذة الأفاضل محمد الناصري و محمد مزين وعبد الأحد السبتي ومينة المغاري و محمد رابطة الدين وعبد الإله الفاسي و محمد اللحية وجمال حيمر، و محمد المبكر وعثمان المنصوري، سواء بالعروض أو النقاش المثمر المرافق لها.
ونتمنى أن يجد القارئ الكريم والباحث المهتم في هذه التجارب الغنية ما يفتح أمامه آفاقا أرحب في البحث والتنقيب في تاريخ المدينة المغربية، ويثري الأسئلة المنهجية والمعرفية التي يمكن الاستناد إليها في تناول بعض القضايا التي مازالت تحتاج للمعالجة والانكباب على دراستها. وقد كان بودنا أن تتضمن دفنا هذا الكتاب نص المداخلة التي قدمها الأستاذ عبد الأحد السبتي عن دراسة المجتمع الحضري بفاس، لكن انشغالاته العلمية حالت دون تزويدنا بمساهمته معدة للنشر، ومن حسن حظنا وحظ القارئ والباحث أن الاستفادة من هذه التجربة المتميزة متاحة عبر الفيديو المنشور بموقع الجمعية المغربية للبحث التاريخي على الرابط: http://www.amrh.ma/?p=7307
أود في ختام هذا التقديم أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى الأساتذة الأجلاء الذين أسهموا في هذا الكتاب، وإلى السيد عميد الكلية متعددة التخصصات بتازة التي احتضت الندوة وكافة الشركاء المدعمين، وإلى الجمعية المغربية للبحث التاريخي ممثلة في مکتبها، على مشاركتها في التنظيم، وفي دعم الندوة، وأيضا على تبنيها نشر أعمال هذا اللقاء ضمن منشوراتها، والشكر موجه أيضا إلى الصديقين محمد ياسر الهلالي وحميد تيتاو، على جهودهما سواء في تنظيم هذا الملتقى العلمي أو في مراجعة مواد هذا الكتاب، لإتاحته للقراء والباحثين.
عبد المالك ناصري
فهرس المحتويات
| ||
3
|
عبد المالك ناصري
|
تقديم
|
7
|
محمد الناصري
|
التطور التاريخي للمدينة بين نوعية التدبير الذاتي، ورهانات السلطة: تساؤلات وفرضيات
|
31
|
محمد مزين
|
تجربة في كتابة تاريخ مدينة فاس
|
47
|
مينة المغاري
|
تجارب حول دراسة المدن: البحث في أصول نسيج حضري ما بعد وسيطي (نموذج الصويرة)
|
73
|
محمد رابطة الدين
|
تجربة في كتابة تاريخ مدينة مراكش
|
91
|
عبد الإله الفاسي
|
تجربة في كتابة تاريخ مدينة الرباط
|
113
|
محمد اللحية
|
في التاريخ المحلي لمدينة مكناس: من التحليل الوصفي لأنشطتها الاقتصادية في القرن التاسع عشر إلى المقاربة المركبة لعوامل نشأتها وتمدها في العصر الوسيط
|
125
|
جمال حيمر
|
من قضايا وإشكالات مبحث تاريخ المدينة المغربية
|
0 تعليقات